فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



على أن سورة الأنفال سابقة في النزول على سورة الحشر لأن الأنفال نزلت في غنائم بدر وسورة الحشر نزلت بعدها بسنتين.
إلا أن يقول قائل: إن آية الأنفال نزلت بعد آية الحشر تجديدًا لما شرعه الله من التخميس في غنائم بدر، أي فتكون آية الحشر ناسخة لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة مغانم بدر، ثم نسخت آية الأنفال آية الحشر.
فيكون إلحاقها بسورة الأنفال بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وقال القرطبي: قيل إن سورة الحشر نزلت بعد الأنفال، واتفقوا على أن تخميس الغنائم هو الذي استقر عليه العمل، أي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبالإِجماع.
وليس يبعد عندي أن تكون القرى التي عنتها آية الحشر فتحت بحالة مترددة بين مجرد الفيء وبين الغنيمة، فشُرع لها حكم خاص بها، وإذ قد كانت حالتها غير منضبطة تعذر أن نقيس عليها ونُسخ حكمها واستقرّ الأمر على انحصار الفتوح في حالتين: حالة الفيء المجرد وما ليس مجردَ فيء.
وسقط حكم آية الحشر بالنسخ أو بالإِجماع.
والإِجماع على مخالفة حكم النص يعتبر ناسخًا لأنه يتضمن ناسخًا.
وعن معمر أنه قال: بلغني أن هذه الآية أي آية {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} نزلت في أرض الخراج والجزْية.
ومن العلماء من حملها على أرض الكفار إذا أخذت عنوة مثل سواد العراق دون ما كان من أموالهم غير أرض.
كل ذلك من الحيرة في الجمع بين هذه الآية وآية سورة الأنفال مع أنها متقدمة على هذه مع ما روي عن عمر في قضية حكمه بين العباس وعلي، ومع ما فعله عُمر في سواد العراق، وقد عرفت موقع كل.
وستعرف وجه ما فعله عمر في سواد العراق عند الكلام على قوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} [الحشر: 10].
ومن العلماء من جعل محمل هذه الآية على الغنائم كلها بناء على تفسيرهم الفيء بما يرادف الغنيمة.
وزعموا أنها منسوخة بآية الأنفال.
وتقدم ما هو المراد من ذكر اسم الله تعالى في عداد من لهم المغانم والفيءُ والأصناف المذكورة في هذه الآية تقدم بيانها في سورة الأنفال.
و{كي لا يكون دولة} إلخ تعليل لما اقتضاه لام التمليك من جعله ملكًا لأصناف كثيرة الأفراد، أي جعلناه مقسومًا على هؤلاء لأجل أن لا يكون الفيء دُولة بين الأغنياء من المسلمين، أي لئلا يتداوله الأغنياء ولا ينال أهلَ الحاجة نصيب منه.
والمقصود من ذلك.
إبطال ما كان معتادًا في العرب قبل الإِسلام من استئثار قائد الجيش بأمور من المغانم وهي: المرباع، والصفايا، وما صالح عليه عدوّه دون قتال، والنشيطة، والفضول.
قال عبد الله بن عَنمة الضبّيّ يخاطب بِسطام بنَ قيس سيد بني شيبان وقائدَهم في أيامهم:
لك المِرباع منها والصفايا ** وحُكْمك والنشيطَةُ والفُضُول

فالمرباع: ربُع المغانم كان يستأثر به قائد الجيش.
والصفايا: النفيس من المغانم الذي لا نظير له فتتعذر قسمته، كان يستأثر به قائد الجيش، وأما حُكمه فهو ما أعطاه العدوُّ من المال إذا نزلوا على حكم أمير الجيش.
والنشيطة: ما يصيبه الجيش في طريقه من مال عدوّهم قبل أن يصلوا إلى موضع القتال.
والفُضُول: ما يبْقى بعد قسمة المغانم مما لا يقبل القسمة على رؤوس الغُزاة مثل بعيرٍ وفرس.
وقد أبطل الإِسلام ذلك كله فجعل الفيء مصروفًا إلى ستة مصارف راجعة فوائدها إلى عموم المسلمين لسدّ حاجاتهم العامة والخاصة، فإن ما هو لله وللرسول صلى الله عليه وسلم إنما يجعله الله لما يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل الخمس من المغانم كذلك لتلك المصارف.
وقد بدا من هذا التعليل أن من مقاصد الشريعة أن يكون المال دُولة بين الأمة الإِسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل المَوات، والفيء، واللقطات، والركاز، أو كان جزءًا معينًا مثل: الزكاة، والكفارات، وتخميس المغانم، والخراج، والمواريث، وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل مثل: القرأض والمغارسة، والمساقاة، وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل: الفيء والرّكاز، وما ألقاه البحر، وقد بينت ذلك في الكتاب الذي سميتُه (مقاصد الشريعة الإِسلامية).
والدُولة بضم الدال: ما يتداوله المتداولون.
والتداول: التعاقب في التصرف في شيء.
وخصها الاستعمال بتداول الأموال.
والدَولة بفتح الدال: النوبة في الغلبة والملك.
ولذلك أجمع القراء المشهورون على قراءتها في هذه الآية بضم الدال.
وقرأ الجمهور {كي لا يكون دولة} بنصب {دولةً} على أنه خبر {يكون}.
واسم {يكون} ضمير عائد إلى ما أفاء الله، وقرأه هشام عن ابن عامر، وأبو جعفر برفع {دولةٌ} على أنَّ {يكون} تامة و{دولةٌ} فاعله.
وقرأ الجمهور {يكون} بتحتية في أوله.
وقرأه أبو جعفر {تكونَ} بمثناة فوقية جريًا على تأنيث فاعله.
واختلف الرواة عن هشام فبعضهم روى عنه موافقة (أي جعفر) في تاء {تكون} وبعضهم روى عنه موافقة الجمهور في الياء.
والخطاب في قوله تعالى: {بين الأغنياء منكم} للمسلمين لأنهم الذين خوطبوا في ابتداء السورة بقوله: {ما ظننتم أن يخرجوا} [الحشر: 2] ثم قوله: {ما قطعتم من لينة} [الحشر: 5] وما بعده.
وجعله ابن عطية خطابًا للأنصار لأن المهاجرين لم يكن لهم في ذلك الوقت غنى.
والمراد بـ {الأغنياء} الذين هم مظنة الغنى، وهم الغُزاة لأنهم أغنياء بالمغانم والأنفال.
{مِنكُمْ وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ}.
اعتراض ذيّل به حكم فَيْء بني النضير إذ هو أمر بالأخذ بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومما جاءت به هذه الآيات في شأن فيْء النضير، والواو اعتراضية، والقصد من هذا التذييل إزالة ما في نفوس بعض الجيش من حزازة حرمانهم مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أرض النضير.
والإِيتاء مستعار لتبليغ الأمر إليهم، جعل تشريعه وتبليغه كإيتاء شيء بأيديهم كما قال تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة} [البقرة: 63 و93] واستعير الأخذ أيضًا لقبول الأمر والرضى به والعمل.
وقرينة ذلك مقابلته بقوله تعالى: {وما نهاكم عنه فانتهوا} وهو تتميم لنوعي التشريع.
وهذه الآية جامعة للأمر باتباع ما يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وفعل فيندرج فيها جميع أدلة السنة.
وفي (الصحيحين) عن ابن مسعود: أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواشمات والمستوشمات».
الحديث.
فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب فجاءته فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال لها: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول.
فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأتِ: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}.
وعطف على هذا الأمر تحذير من المخالفة فأمرهم بتقوى الله فيما أمر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وعطف الأمر بالتقوى على الأمر بالأخذ بالأوامر وترك المنهيات يدل على أن التقوى هي امتثال الأمر واجتناب النهي.
والمعنى: واتقوا عقاب الله لأن الله شديد العقاب، أي لمن خالف أمره واقتحم نهيه. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}
وتقدم الكلام في تسبيح الجمادات التي يشملها العموم المدلول عليه بما، {من أهل الكتاب}: هم قريظة، وكانت قبيلة عظيمة توازن في القدر والمنزلة بني النضير، ويقال لهما الكاهنان، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون، نزلوا قريبًا من المدينة في فتن بني إسرائيل، انتظارًا لمحمد صلى الله عليه وسلم، فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى في كتابه.
{من ديارهم}: يتعلق بأخرج، و{من أهل الكتاب} يتعلق بمحذوف، أي كائنين من أهل الكتاب.
وصحت الإضافة إليهم لأنهم كانوا ببرية لا عمران فيها، فبنوا فيها وأنشأوا.
واللام في {لأول الحشر} تتعلق بأخرج، وهي لام التوقيت، كقوله: {لدلوك الشمس} والمعنى: عند أول الحشر، والحشر: الجمع للتوجيه إلى ناحية مّا.
والجمهور: إلى أن هؤلاء الذين أخرجوا هم بنو النضير.
وقال الحسن: هم بنو قريظة؛ ورد هذا بأن بني قريظة ما حشروا ولا أجلوا وإنما قتلوا، وهذا الحشر هو بالنسبة لإخراج بني النضير.
وقيل الحشر هو حشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتائب لقتالهم، وهو أول حشر منه لهم، وأول قتال قاتلهم.
وأول يقتضي ثانيًا، فقيل: الأول حشرهم للجلاء، والثاني حشر عمر لأهل خيبر وجلاؤهم.
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بجلاء أهل خيبر بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبقين دينان في جزيرة» وقال الحسن: أراد حشر القيامة، أي هذا أوله، والقيام من القبور آخره.
وقال عكرمة والزهري: المعنى: الأول موضع الحشر، وهو الشام.
وفي الحديث، أنه عليه الصلاة والسلام قال لبني النضير: «اخرجوا، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر» وقيل: الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وهذا الجلاء كان في ابتداء الإسلام، وأما الآن فقد نسخ، فلابد من القتل والسبي أو ضرب الجزية.
{ما ظننتم أن يخرجوا}، لعظم أمرهم ومنعتهم وقوتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم.
{وظنوا أنهم} تمنعهم حصونهم من حرب الله وبأسه.
ولما كان ظن المؤمنين منفيًا هنا، أجري مجرى نفي الرجاء والطمع، فتسلط على أن الناصبة للفعل، كما يتسلط الرجاء والطمع.
ولما كان ظن اليهود قويًا جدًا يكاد أن يلحق بالعلم تسلط على أن المشددة، وهي التي يصحبها غالبًا فعل التحقيق، كعلمت وتحققت وأيقنت، وحصونهم الوصم والميضاة والسلاليم والكثيبة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم، وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت: في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسمًا لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في انفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم.
انتهى، يعني أن حصونهم هو المبتدأ، ومانعتهم الخبر، ولا يتعين هذا، بل الراجح أن يكون حصونهم فاعلة بمانعتهم، لأن في توجيهه تقديمًا وتأخيرًا، وفي إجازة مثله من نحو: قائم زيد، على الابتداء، والخبر خلاف؛ ومذهب أهل الكوفة منعه.